
مقالة علمية
إشكالية استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الإدارات الضريبية
أعدها أ.م. د: معتز علي صبار
رئيس قسم القانون في كلية القانون بجامعة الأنبار
ننطلق في كتابة هذه المقالة من تساؤل مفاده: هل من الممكن في المستقبل أن يتم حل جميع شكوك المكلفين بالضرائب من خلال تبني برامج الذكاء الاصطناعي في أدارة العمليات الضريبية (المساعدين الافتراضيين)؟
وهل سنرى عالماً حيث لا يضطر فيه المكلفين- دافعو الضرائب- إلى تقديم إقراراتهم الضريبية كتابة، والتي سوف يتم إعدادها بواسطة آلات ذكية؟ هل سيتم تسوية إجراءات التحقق الضريبي دون تدخل العنصر البشري (الموظفين الإداريين)؟ هذه بعض الإمكانيات التي يحتمل أن يوفرها الذكاء الاصطناعي، والتي يجب أن ننتبه إليها من الآن فصاعدًا، نظرًا لنمو القدرة الحاسوبية وتوافر البيانات والتقدم في الخوارزميات، فإننا نواجه واحدة من أكثر التقنيات الإستراتيجية في طرح الاحتمالات الأيجابية منها، ولكن المخاطر المحتملة أيضا كبيرة.
ولهذا السبب، نحتاج إلى التفكير في الذكاء الاصطناعي من وجهات نظر متنوعة (التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية) ونرحب بالمساهمات التي تسمح لنا بتعزيز مزاياها والسيطرة على المشاكل والمخاطر القائمة. ومن منظور مالي ضريبي (قانوني)، يجب تحليل الإمكانيات الجديدة، وعلى وجه التحديد، الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في تحويل الإدارات الضريبية والأنظمة الضريبية في البلدان لا سيما النامية منها مثل العراق. وبالإضافة إلى ذلك، يجب علينا أن ننظر في كيفية تأثر وضع (المكلفين) دافعي الضرائب من أجل تعزيز حقوقهم وضماناتهم حيثما كان ذلك مناسبا، فضلا عن الإطار الجديد المحتمل للعلاقات التي قد تنشأ بين طرفي العلاقة الضريبية وهما كل من الإدارة الضريبية الطرف الإيجابي في هذه العلاقة ودافعي الضرائب (المكلفين) الطرف السلبي فيها.
بالنسبة للإدارات الضريبية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورا رئيسيا في عملها، حيث يجد استخدام هذه التقنيات مجالا مناسبا بشكل خاص من الإمكانات الاستثنائية. ويرجع ذلك، كما يشير الخبراء، إلى أنه على الرغم من تطوير الذكاء الاصطناعي من خلال الخوارزميات والبيانات، فإن نجاح النتائج التي يمكنه تحقيقها يكمن بشكل أساسي في البيانات التي يتم الحصول عليها ومنها في مجال الضرائب -البيانات والمعلومات التي تتعلق بتفاصيل الأنشطة الاقتصادية الخاضعة للضريبة في دولة معينة-، وخاصة في حجمها ودقتها. وبهذا المعنى، ليس هناك شك في الموقع المميز الذي تجد فيه الإدارات الضريبية نفسها، بسبب الكم الهائل من البيانات التي سوف تتوفر لديها، وبسبب جودة وصحة ودقة هذه المعلومات أو البيانات.
يتطلب هذا الوضع المتميز استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الإدارات الضريبية، ليس فقط لمكافحة الاحتيال الضريبي بشكل مباشر، ولكن قبل كل شيء بهدف تقديم خدمة أفضل لدافعي الضرائب، وزيادة امتثالهم للالتزامات الضريبية. في عصر الشفافية الذي نمر به والذي نأمل أن يتسع نطاقه وتحترمه أطراف العلاقة الضريبية، أصبح لدى الإدارات الضريبية المزيد والمزيد من البيانات والمعلومات، والتي يتم الحصول عليها في كثير من الأحيان من خلال التزامات الإبلاغ التي يجب على المكلفين- دافعو الضرائب- تنفيذها تجاه السلطة المالية. وقد تزايدت هذه الالتزامات بشكل كبير وأصبحت تشكل عبئاً كبيرا غير مباشر على الأفراد والشركات، والتي يتعين على الحكومات "تعويضها" بطريقة أو بأخرى.
والسؤال الذي نطرحه هنا: في أي مرحلة وصلنا في استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الأدارة الضريبية؟ وفقًا لتقرير إدارات الضرائب في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2019: معلومات مقارنة حول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرها من الاقتصادات المتقدمة والصاعدة، فإن أكثر من 40 إدارة ضريبية تستخدم الذكاء الاصطناعي، أو تخطط للقيام بذلك. لا سيما في مجال الوقاية الذي يتحقق من خلال توفير الطمأنينة للمكلفين دافعي الضرائب بعدم الاعتماد على الجهود البشرية في تقييم البيانات التي تتعلق بأنشطتهم الاقتصادية التي تتمثل بأعداد التقارير الضريبية هذا من جانب، ومن جانب أخر في مجال الحد من الاحتيال والغش الضريبي الذي قد يلجأ اليه بعض المكلفين بدفع الضرائب بوسائل مختلفة.
ولكن ما هي المجالات الأخرى التي تسمح باستخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي؟
إن الأفق المستقبلي هو أن نكون قادرين على الوصول إلى جميع المجالات والإجراءات الضريبية، وجميع وظائف واختصاصات الإدارات الضريبية. وهنا نتأمل في المسار الكامل لأتمتة الوظائف الإدارية وخصوصا الضريبية منها. أما فيما يتعلق بالإجراءات الضريبية، يوجد في أطار عمل الإدارة الضريبية أيضًا مجال مهم لإدراج الذكاء الاصطناعي وتحسين كفاءة الإجراء، ومنها عمليات التحقق من دخول المكلفين الخاضعة للضريبية من خلال التدقيق في صحة ودقة البيانات التي تخص انشطتهم الاقتصادية والتي كانت تحصل عليها من خلال التقارير الضريبية. وكذلك الحال في عملية التحصيل أو الجباية، كما تستطيع بعض الإدارات الضريبية بالفعل التنبؤ بالديون المعدومة من أجل إعطاء الأولوية للتحصيل الجبري لمستحقات خزينة الدولة العامة من الإيرادات الضريبية، ولكن إذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك، فمن الممكن أن نتصور أن الذكاء الاصطناعي سيتم استخدامه لأغراض أخرى في مجال الجمع؛ على سبيل المثال، يمكن استخدامه لتبني تدابير احترازية أو لاشتقاق إجراءات الالتزام الضريبي أو لتسوية الالتزام الضريبي كما في حالة المقاصة الضريبية الالكترونية. ويمكن أيضًا حل إجراء المراجعة الضريبية من خلال هذه التقنيات. بل من الممكن تصور الحل الكامل لبعض الإجراءات الضريبية التي تكون معقدة أحيانا بطريقة آلية ما، دون تدخل الاجتهادات البشرية، على الرغم من أننا لا نزال بعيدين عن هذا الواقع.
باختصار يمكن تحقيق العديد من الفوائد من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، وفي منطقتنا، وفي دولتنا ينبغي لهم ضمان التزام أو امتثال ضريبي أفضل، بمعنى امتثال أسهل وأكثر عدالة لدافعي الضرائب(المكلفين)، في عالم تقل فيه الأخطاء من جانب الإدارات الضريبية. وصحيح أن هذه هي وجهة نظر الذكاء الاصطناعي من منظور متفائل بشكل واضح. ولكن في مواجهة هذا المفهوم، هناك أيضًا مخاطر بشأن ما يمكن أن يشكله من إساءة استخدام للذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يتطلب تقييمًا مناسبًا من منظور أخلاقي واعتماد مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن تحكم العمل الإداري وهي:
أولاً، مبدأ الحكمة: والذي من خلاله نتجنب تعقيد الإجراءات الضريبية في نطاق المشاريع التي تُستخدم فيها. وهنا ينبغي السعي الى إحراز التقدم بناءً على نتائج آمنة نتجنب فيها المخاطر التي من شأنها ان تدفع المكلفين الى تبني أساليب مختلفة لعدم الالتزام في تنفيذ واجباتهم تجاه الإدارة الضريبية كأستعمال أساليب الغش والاحتيال للتخلص من أداء مبلغ الضريبة، ولتوخي الدقة العالية قبل تطبيقها على نطاق واسع. وفي هذا السياق، ينبغي علينا أيضًا أن نضع في اعتبارنا أن استخدام هذه التقنيات ينطوي على تكلفة اقتصادية كبيرة للدولة، ولذلك من المهم تقييم الوسائل المستخدمة من حيث النتائج التي يمكن الحصول عليها. علاوة على ذلك، فإن مبدأ الحيطة والحذر يجب أن يكون حاضراً أيضاً عند تقييم مدى صحة الاستنتاجات التي تستخلص خلال أدخال برامج الذكاء الاصطناعي في تطبيق الإجراءات الضريبية لا سيما الحساسة منها مثل التعامل مع البيانات الشخصية أو احتمالية المساس بالحريات العامة.
ثانياً، مبدأ عدم التمييز: وكما نعلم، تعتمد الخوارزميات على فرضيات طورها العلماء، مما يعني ضمناً خطر انتقال الأخطاء البشرية أو تحيزاتها إلى الخوارزمية نفسها، مما يؤثر على صحة الفرضيات الجديدة ونتائجها. وهنا يحق لأطراف العلاقة الضريبية أبداء المخاوف من استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال العمل الضريبي.
ثالثا: مبدأ التناسب: والذي بموجبه ينبغي علينا تقييم درجة التدخل الذي يحدث في حقوق وضمانات-المكلفين- دافعي الضرائب مع القرارات المستمدة من البرامج التي تستخدم الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، التأثير الذي يمكن أن يحدثه إرسال خطاب أو بلاغ إلى -المكلفين- دافعي الضرائب من خلال الإبلاغ بأن الإدارة الضريبية لديها معلومات معينة حول وضعهم المالي الضريبي. ويسعى هذا الاجراء إلى تشجيع الامتثال(الالتزام) الطوعي للمكلف، ويختلف عن بدء أستعمال الإدارة الضريبية لسلطاتها في الاطلاع والتحري والتحقيق والتفتيش. علاوة على ذلك، ينبغي لهذا المبدأ أن يقودنا إلى أقصى درجات الحذر عندما يمكن أن تتأثر الحقوق الأساسية للمكلفين.
رابعاً: مبدأ الشفافية: والذي يتضمن اتخاذ التدابير التي تمكن دافعي الضرائب(المكلفين) من معرفة سبب اتخاذ القرار الإداري في الشؤون الضريبية، دون الحد من حقهم في الدفاع عن حقوقهم حسب وجهة نظرهم، وبات يمثل هذا الاجراء أحد المبادئ التي تحكم الشؤون القانونية عموما والضريبية على وجه الخصوص.
وأخيرا، تعد حوكمة البيانات ذات أهمية لضمان أمن البيانات، أو المعلومات الضريبية للمكلفين من جانب، ولتقيمها لمصلحة خزينة الدولة من جانب أخر، وهو الأمر الذي تتولى إدارات الضرائب المسؤولية عنه، مع احترام الخصوصية والسرية التي تكفلها نصوص القوانين الضريبية. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي للإدارات الضريبية أيضاً أن تتحمل المسؤولية عن جودة البيانات والتي ينبغي أن تكون ذات قيمة في عملية التقدير الضريبي مثلا، كما ينبغي تشجيع تكامل جميع المعلومات والبيانات التي تخدم عمل الادارات الضريبية ضمن قاعدة عامة.
نخلص مما تقدم، أنه يجب أن تسمح القرارات التي يمكن استخلاصها من تبني برامج الذكاء الاصطناعي جيدة التصميم وتغذيتها ببيانات المكلفين دافعي الضرائب بتطبيق أفضل للنظام الضريبي، ووجود قوانين ضريبية عالية الجودة، مما يعزز وحدة المعايير الإدارية، والمزيد من اليقين القانوني لدافعي الضرائب، والسعي لتقليل الوقت والجهد والتكاليف المطلوبة لتسوية النزاعات الضريبية. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تؤدي إلى الحد من احتمالات الاحتيال الضريبي، وهو ما يفيد بلا شك المجتمع بشكل عام. ومع ذلك، يجب أن تكون التكنولوجيا في خدمة دافعي الضرائب(المكلفين) كما يجب أن تستلهم الإجراءات الإدارية مثل إجراءات تقديم الطلبات الضريبية مبادئ الحيطة والتناسب وعدم التمييز والشفافية وإدارة المعلومات.