
مقالة علمية
مقالة بعنوان
حماية الذوق العام في الفضاء الرقمي: نحو تنظيم قانوني متوازن
أعدها أ.م. د: معتز علي صبار
رئيس قسم القانون في كلية القانون بجامعة الأنبار
ننطلق في كتابة هذه المقالة من تساؤل مفاده:
كيف يمكن تحقيق التوازن بين حرية التعبير في الفضاء الرقمي وبين ضرورة حماية الذوق العام دون مساس بالحقوق الأساسية للمستخدمين؟
يشكل الذوق العام منظومة أخلاقية وقيمية تهدف إلى تحقيق التعايش السلمي داخل المجتمع، وقد كان تنظيمه تقليدياً محصوراً في المجال المادي الواقعي، بيد أن الثورة الرقمية وما أفرزته من فضاءات إلكترونية، فرضت ضرورة إعادة النظر في مفهوم الذوق العام، وإعادة تنظيمه في بيئة لا تعترف بالحدود التقليدية للزمان والمكان، ومن هنا برز دور القانون في بناء منظومة تحكم سلوك الأفراد في الفضاء الرقمي بما يحقق حماية الذوق العام ويحافظ على التوازن مع حرية التعبير. ونستعرض في هذا المقال الإطار المفاهيمي للعلاقة بين القانون والذوق العام في ظل التحول الرقمي، ونحلل أبرز التحديات المرتبطة بذلك، مع تقديم حلولاً مقترحة لتحقيق التوازن المنشود.
أذ تشكل القوانين أداة أساسية لتنظيم الحياة الاجتماعية وضمان استقرار المجتمعات، حيث تحدد الحقوق والواجبات وتضع الضوابط التي تحمي الأفراد وتصون حرياتهم، الأ أن هناك جانباً آخر، لا يقل أهمية عن النصوص القانونية، يتمثل في الذوق العام، الذي يعبر عن مجموعة القيم والأعراف والتقاليد التي ترتضيها الجماعة لنفسها، وتجعل من الالتزام بها معياراً للسلوك المقبول اجتماعياً.
ماهية الذوق العام
الذوق العام هو مجموعة غير مكتوبة من القواعد التي تنظم سلوك الأفراد بما يحترم مشاعر الآخرين وقيم المجتمع، فهو يمثل صورة من صور الاحترام المتبادل، ومراعاة الحس الجمعي لما هو لائق ومقبول، كما أنه يتغير بتغير الزمان والمكان والثقافة، لكنه يظل ركيزة أساسية للحفاظ على الانسجام الاجتماعي.
ومع ظهور التحول الرقمي، اتسع نطاق الذوق العام ليشمل السلوكيات والممارسات عبر الوسائط الإلكترونية، بما في ذلك طبيعة المحتوى المنشور، وطريقة التفاعل بين الأفراد على المنصات الرقمية.
دور القانون في حماية الذوق العام
بينما يقوم الذوق العام على الأعراف الاجتماعية، فإن القانون يتدخل لحمايته عندما يتهدد بشكل واضح أو يصبح الإخلال به سبباً في النزاع أو الإضرار بالمصلحة العامة، وقد شرعت كثير من النصوص القانونية التي تجرم الإخلال بالذوق العام، مثل إتيان أفعال خادشة للحياء في الأماكن العامة، أو ارتداء ملابس غير لائقة، أو استخدام ألفاظ نابية في الأماكن المفتوحة.
والقانون هنا لا يسعى إلى قمع الحرية الشخصية، بل يهدف إلى رسم حدودها بما لا يضر بحقوق الآخرين ولا يخل بالنظام العام، مما يعزز بيئة الاحترام والتعايش.
كما لابد من تحديد آليات تضمن تحقيق التوازن بين الحرية الشخصية وحماية الذوق العام
وهنا يبرز التحدي الأكبر في تحقيق توازن دقيق بين احترام الحرية الفردية وبين ضرورة حماية الذوق العام، فحرية التعبير عن الرأي أو طريقة اللباس، مثلاً، تظل مكفولة طالما لم تتجاوز حدود الذوق العام بما يسيء إلى الآخرين أو ينتهك القيم المشتركة، ومن هنا، يأتي دور المشرّع والقاضي في رسم هذا الخط الفاصل بمرونة تراعي الخصوصيات الثقافية وتحترم المبادئ الدستورية.
أما عن علاقة القانون بالذوق العام في ظل التحول الرقمي
فأنه مع تسارع التحول الرقمي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية، أصبح للذوق العام حضورٌ قوي في الفضاء الرقمي، مما استلزم تدخل القانون لضبط السلوكيات الرقمية بما يحافظ على القيم الاجتماعية ويحمي النظام العام.
حيث أصبح الحفاظ على الذوق العام لا يقتصر على الأماكن التقليدية، بل امتد إلى الفضاءات الافتراضية التي غدت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية.
وفيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين القانون والذوق العام رقمياً نناقش الأمور الأتية:
1. تنظيم السلوكيات الرقمية
فرضت الدول تشريعات رقمية لضبط المحتوى المنشور على الإنترنت لا سيما في مواقع التواصل الأجتماعي بما يحترم الذوق العام، مثل حظر نشر الصور أو المقاطع المسيئة (المحتوى الهابط)، أو استخدام الألفاظ الخادشة أو الرموز المهينة أو المجاهرة بالمعاصي مثل شرب الخمر أو سب الذات الألهية عبر منصات التواصل.
2. حماية القيم الاجتماعية على المنصات الإلكترونية
أصبح القانون أداة لحماية المجتمع من الانفلات الأخلاقي أو الاعتداء على الحياء العام عبر الفضاء الرقمي، فقد ساهم الانفتاح الرقمي في بروز مظاهر أنفلات أخلاقي، وتوسع خطاب الكراهية والتشهير.
أما عن أبرز مظاهر تدخل القانون لضبط الذوق العام الرقمي فهي:
1. سن تشريعات خاصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية:
وتشمل النصوص التي تُجرّم الإساءة عبر الإنترنت، ونشر المحتوى الفاحش أو المخل بالآداب، أو التحريض على الكراهية والتمييز، أو التعدي على الرموز الدينية والوطنية.
2. تجريم الإساءة للغير عبر الوسائط الرقمية:
هو محور قانوني حديث وضروري، نظراً لتزايد استخدام الوسائط الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وما يرافقها من انتهاكات لفظية وسلوكية قد تسيء للغير وتلحق بهم أضراراً معنوية أو مادية، مثل القذف والسب والتشهير أو نشر صور وفيديوهات دون إذن، وكل ما يمس كرامة الفرد أو يشوه سمعته.
3. تقييد المحتوى المخالف للآداب العامة:
بعض القوانين تُعاقب على نشر مقاطع تتضمن تعرياً أو إيحاءات جنسية أو ألفاظاً نابية حتى في الحسابات الشخصية، باعتبارها تخالف الذوق العام وتهدد القيم الاجتماعية.
4. وضع ضوابط للنشر على المنصات الرقمية:
مثل اشتراط ترخيص لبعض المؤثرين أو منصات المحتوى، أو مطالبة المستخدمين بالتزام "مدونات السلوك الرقمي" التي تحدد معايير الذوق العام والمسؤولية.
5. إجراءات رقابية من الجهات التنظيمية:
كهيئات الاتصالات أو الوزارات المختصة التي تملك صلاحيات حجب المواقع، أو حظر الحسابات المسيئة، أو ملاحقة المخالفين قانونيًا من قبل دوائر وأقسام مراقبة ما ينشر من محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا لابد من التطرق الى الدور الكبير الذي تمارسه الجهات الأمنية المختصة في محافظة الأنبار في الرقابة والمحاسبة لكل من يحاول الإساءة للذوق العام في ربوع المدينة.
6. تشجيع الإبلاغ عن المحتوى غير اللائق:
يتطلب تعميم أليات عبر منصات رسمية تسهل على المواطنين تقديم بلاغات فورية بشأن انتهاكات الذوق العام، مع توفير الحماية للمبلغين.
أن التحول الرقمي أدى إلى إعادة تعريف الكثير من المفاهيم القانونية والاجتماعية، وكان الذوق العام من أبرز هذه المفاهيم التي تطلبت مواكبة قانونية فعالة. وفي ضوء ذلك، يمثل التوازن بين صون الحريات الفردية وحماية الذوق العام تحدياً معقداً يتطلب جهداً تشريعياً وتربوياً متكاملاً، مع التزام دائم بمرونة القواعد القانونية واستجابتها للواقع المتغير للفضاء الرقمي.
يتضح مما سبق أن التحول الرقمي قد وسّع نطاق مسؤولية القانون في تنظيم السلوك العام ليشمل البيئات الافتراضية، ما استدعى تطوير أدوات قانونية جديدة قادرة على التصدي للانتهاكات الرقمية للذوق العام، غير أن هذه المهمة تظل محفوفة بتحديات عدة أبرزها التوفيق بين صيانة القيم المجتمعية وضمان الحريات الفردية، إضافة إلى صعوبة الرقابة الفعالة في بيئة سريعة التطور. ومن ثم فإن مستقبل حماية الذوق العام الرقمي يتطلب منظومة تشريعية مرنة وتعاونية، تقوم على نشر ثقافة احترام القيم، وتفعيل الأدوات التقنية الحديثة في إطار قانوني عادل ومتوازن.