
مقالة علمية
مقالة بعنوان
"الخط الأحمر"
المسؤولية الجزائية عن سب الذات الإلهية وفقًا لأحكام قانون العقوبات العراقي
أعدها أ.م. د: معتز علي صبار
رئيس قسم القانون في كلية القانون بجامعة الأنبار
أمتثالا لما جاء في قول نبينا محمد صل الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
ننطلق في كتابة هذه المقالة من تساؤل مفاده:
ما مدى أمكانية مساءلة الفرد جزائيا عن سلوك نابع من إعماقه النفسية المضطربة، وأنحرافه العقائدي الذي يتمثل في سب الذات الإلهية؟ أم أن المعاناة الذاتية ترسم خطا أحمر تقف عنده يد القانون؟
في خضم الانفتاح الرقمي المتسارع وتنامي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، شهد المجتمع العراقي في الآونة الأخيرة ظواهر سلوكية شاذة وخطيرة تنذر بانحدار قيمي وأخلاقي، تمثلت بقيام بعض الأفراد المنحرفين فكرياً وعقائدياً ببث مباشر عبر منصات مثل "التيك توك"، يتلفظون فيه بألفاظ بذيئة تمثل اعتداءً صارخاً على الذات الإلهية، متجاوزين بذلك حدود الأدب والدين والقانون، هذه الأفعال ليست مجرد تعبير فردي عن اضطراب أو تمرد، بل هي انعكاس لانفلات أخلاقي وفكري يهدد نسيج المجتمع الديني والثقافي، ويستدعي وقفة جادة من الجهات المعنية لضبط هذا الانفلات وحماية القيم الأساسية التي تقوم عليها الهوية العراقية.
تأتي هذه المقالة في سياق تشخيص هذه الظاهرة، ورصد تداعياتها القانونية، مع تسليط الضوء على سبل المواجهة من خلال بيان موقف المشرع الجزائي العراقي في تجريمه لهذا السلوك.
أذ تُعدّ حماية المقدسات الدينية من القيم الراسخة في المجتمعات ذات الطابع الديني، ويُعتبر سبّ الذات الإلهية من الأفعال التي تُثير مشاعر الغضب والاستياء في الوجدان الجمعي، لما تحمله من إساءة صريحة لمقدّس تتفق عليه الأديان والشرائع السماوية.
وقد أولى المشرّع العراقي هذا الموضوع أهمية خاصة، حيث أدرجه ضمن الأفعال المجرّمة في قانون العقوبات، بهدف صون النظام العام واحترام القيم الدينية للمجتمع. ومع ذلك، فإن هذا التجريم يثير جدلاً قانونياً وفكرياً يتعلق بحدود حرية التعبير من جهة، وبالمسؤولية الجزائية الناشئة عن مثل هذه الأفعال من جهة أخرى.
ويسعى هذا المقال إلى تحليل الإطار القانوني الذي ينظّم هذا الموضوع، وبيان الأسس التي يستند إليها المشرّع في تجريم هذا الفعل، مع التطرق إلى الإشكالات العملية والقانونية التي قد تترتب عليه.
أذ تُعد الذات الإلهية موضعًا مقدسًا في المجتمعات ذات الطابع الديني، ومنها المجتمع العراقي، الذي يشكّل الدين الإسلامي أحد مرتكزاته الأساسية. وبالنظر إلى قداسة هذا المفهوم، فقد أولى المشرّع العراقي اهتمامًا خاصًا بحمايته من أي انتهاك أو إساءة، وذلك عبر تجريم الأفعال التي تُعد مساسًا بهذه القدسية، ومنها سب الذات الإلهية.
وسوف نتناول الموضوع من خلال النقاط الأتية:
أولًا: الإطار القانوني لتجريم سب الذات الإلهية
يندرج سب الذات الإلهية ضمن جرائم الاعتداء على المقدسات الدينية، وقد نصَّ قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في المادة 372 على تجريم الأفعال التي تمس المعتقدات والشعائر الدينية، ومنها ما يعرّض الشخص للمساءلة الجزائية عند الإساءة إلى معتقد ديني أو رموزه أو مقدساته.
ورغم أن القانون لم ينص بشكل صريح على جريمة "سب الذات الإلهية" كمصطلح مستقل، إلا أن الفقه والقضاء العراقيين يُدرجان هذه الأفعال ضمن مضمون المادة المذكورة أعلاه، على اعتبار أن الذات الإلهية هي أسمى المقدسات.
ثانيًا: أركان الجريمة
تقوم جريمة سب الذات الإلهية على ركنين هما:
1. الركن المادي: ويتمثل في الفعل المادي الصادر عن الجاني، كأن يتلفظ بكلمات مهينة أو ينشر محتوى كتابيًا أو مرئيًا يتضمن إساءة صريحة إلى الذات الإلهية، ومن ذلك ما شاع في هذه الأيام من قيام بعض الأفراد بنشر بث مباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي تعد من وسائل العلانية يتضمن ألفاظ فيها تجاوز صريح على الذات الألهية.
2. الركن المعنوي: وهو القصد الجنائي، أي أن يكون الجاني مدركًا لما يقول أو يفعل، وأن يكون قصده موجّهًا إلى الإساءة أو السخرية أو التهكم من الذات الإلهية، لا مجرد الخطأ أو الزلة غير المقصودة، ومن خلال ما يتم نشره عبر مواقع التواصل من بث مباشر نجد أن هؤلاء الأفراد وجلهم من فئة الشباب يمارس هذا السلوك الأجرامي وهو جالس في مكان معد بشكل جيد مع التركيز على جهاز الموبايل ومتابعة ما يكتب له من تعليقات تفاعلية مع سلوكه في مدركة لما يقوم به من سلوك جرمي ومع ذلك يصر على مواصلة ارتكابه.
ثالثًا: العقوبة المقررة
تنص المادة 372/1 من قانون العقوبات على أن من أهان علنًا شعائر دين معيّن أو من حرّض على ازدرائه يُعاقب بالحبس مدة قد تصل إلى 3 سنوات أو بغرامة، وذلك تبعًا لخطورة الفعل وظروفه. وفي حال توافر ظروف مشددة كالتكرار أو العلنية أو النشر عبر وسائل الإعلام، قد تشدد العقوبة وفقًا لقواعد قانون العقوبات العامة.
رابعًا: موقف القضاء العراقي
اتخذ القضاء العراقي موقفًا حازمًا تجاه هذه الجريمة، واعتبر أن سب الذات الإلهية جريمة أخلاقية ودينية تمس النظام العام والسكينة العامة، ولذلك تُعامَل بجدية من قبل المحاكم، خاصة إذا اقترنت بوسائل العلانية كوسائل التواصل الاجتماعي أو التجمّعات العامة.
ويبقى سب الذات الإلهية فعلًا مجرّمًا في القانون العراقي لما ينطوي عليه من إساءة مباشرة لقيم المجتمع ومعتقداته الدينية، ويُعد خرقًا جسيمًا للنظام العام. وبينما تظل حرية الرأي مصونة في الدستور، فإنها لا تمتد لتغطي الأفعال التي تخلّ بالمقدسات، وهو ما يُبرز حرص المشرّع العراقي على تحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية، وصون الكرامة الدينية لكل أفراد المجتمع.
أما عن سبل المواجهة فهي متعددة وجميعها فعالة ومنها:
أولا: دور المؤسسة الأمنية
1. الإجراءات الرادعة: تفعيل النصوص القانونية التي تُجرّم سب الذات الإلهية، وتغليظ العقوبات في حالات العلنية أو التكرار، وهو ما نراه من متابعة حثيثة في رصد هذه الظاهرة ومكافحتها.
2. الرصد الإلكتروني: مراقبة منصات التواصل الاجتماعي لضبط المخالفات ذات الطابع الديني ومنع انتشارها.
3. نشر الوعي القانوني: توعية المواطنين بخطورة الإساءة للمقدسات وبيان العقوبات المترتبة عليها.
ثانيا: المؤسسة الدينية:
هي الركيزة التوعوية والإرشادية في المجتمع، وتملك تأثيرًا مباشرًا على سلوك الأفراد، ويمكن أن تمارس هذا الدور من خلال:
1. الخطاب الديني المعتدل: تعزيز خطاب ديني متزن يوضح قدسية الذات الإلهية وخطورة التطاول عليها.
2. التوعية في الخُطب والدروس من خلال تسليط الضوء على الجريمة وآثارها الروحية والمجتمعية.
ثالثًا: المؤسسة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، الإعلام، المجتمع المدني)
لها الدور الأعمق في البناء القيمي للفرد منذ نشأته أخذين بنظر الأعتبار:
1. التنشئة الدينية الصحيحة في الأسرة والمدرسة، لغرس تعظيم الله واحترام المقدسات.
2. التربية على التسامح والاحترام لتحصين الأفراد من الوقوع في فخ السخرية أو التطاول.
3. الإعلام الهادف من خلال إنتاج برامج ومحتويات تعزز مكانة الدين وتناهض التعدي عليه.
4. مراكز الإرشاد النفسي والاجتماعي: للتعامل مع الحالات التي قد تكون وراءها اضطرابات نفسية أو شعور بالرفض الديني.