مقالة علمية

مقالة علمية

 مقالة بعنوان

متى يكون القانون خادمًا للحرية لا سيدًا عليها؟

أعدها أ.م. د: معتز علي صبار

رئيس قسم القانون في كلية القانون بجامعة الأنبار

في كل زمان ومكان، يظل الإنسان يتوق إلى الحرية، فهي جوهر وجوده، ونبض كرامته، ومعنى حياته، لكن هذه الحرية – مهما عظُمت – لا يمكن أن تبقى في عالم بلا ضوابط، ولا يمكن أن تزدهر في جو من الفوضى يعصف بالحقوق، ويطلق العنان للقوي ليفترس الضعيف.

 هنا يأتي دور القانون ليفعل فعله الفعال، ويمارس دوره النير لحماية الحريات وصونها لا ليكبتها، بل ليحرسها بوصفه الدرع الحصين، وينقيها، ويحميها من أن تُهدر أو تُشوه.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: متى يكون القانون خادمًا للحرية، لا سيّدًا عليها؟

للإجابة على هذا التساؤل نناقش المرتكزات الأتية:

 أولًا: عندما يولد من رحم العدالة لا من هوى السلطة- أو القابضين عليها.

القانون الذي يُكتب ليحمي امتيازات الحاكم، أو يُستخدم كأداة قهر لإخضاع الناس لسلطان طبقة مستبدة متغولة لحقوقهم، لا يمكن أن يكون خادمًا للحرية، فهو في هذا الوصف يمثل قيد مغلّف بالنظام، وسيفٌ مغطى بثوب المصلحة العامة لكنه في حقيقته يخفي خلف أسواره غولا يبتلع حرية الافراد.

أما القانون الذي ينبع من العدالة، ويُصاغ بروح إنسانية، ويُفكر في الضعيف قبل القوي، وفي المواطن قبل المسؤول، فهو القانون الذي يضع نفسه في خدمة الحرية، لأنه لا يعلو على الإنسان، بل يرفع من شأنه بعده خادما له لا سيدا عليه، يضلل في جلبابه الواسع حرية وحقوق الأفراد.

 ثانيًا: عندما يُصاغ لحماية الحقوق لا لتقييدها

هناك فرق كبير بين قانون يصاغ ليضمن حرية التعبير والتفكير والأبداع والابتكار لعموم أفراد المجتمع دونما تمييز بين فرد وأخر وطبقة اجتماعية وأخرى تمارس نشاطها تحت راية القانون الوطني ومحبا ومحترما لحقوق الأغيار من بني جنسه في ربوع هذا الوطن الفسيح، وبين قانون يُكتب ليسرد الممنوعات، ويعدد المحظورات ويمد حدودها لتلفلف أسوراها حيزا واسعا من نطاق حرية وحقوق أفراد المجتمع، والفرق بينهما هو الفرق بين الحماية والقمع، بين الرعاية والسيطرة، بين التنظيم والتحجيم، والقانون يعد خادم للحرية عندما يوفّر مساحات آمنة للتعبير لا تهديد فيها،

كما أنه يحمي حرية الفكر والضمير والعقيد، ويضمن أن تكون الخصوصية مصونة كما أريد لها في حرفية نصوصه الظاهرة، لا كما تنصرف أليه أرادة من يجيرون أحكام القانون لخدمة مصالحهم، والكرامة محفوظة، والاختيار الحرّ مكفولًا كما رسمته نصوص أبو القوانين- الدستور المقدس.

كما ينبغي أن يصبح القانوني درعًا يحتمي به الفرد من الجور والاعتداء، لا قيدا يكبله، فجوهر وظيفة القانون أن يصون حرية الأنسان وكرامته لا أن يسخر لتقييدها، فهنا يكون القانون في موضع الخدمة، لا السيادة، فحيثما يكون العدل يكون القانون في صف الإنسان.

 ثالثًا: عندما يُعامِل الجميع على قدم المساواة

الحرية لا تزدهر في بيئة التمييز، فإذا شعر المواطن أن القانون لا يساويه بغيره من أبناء جلدته ضمن أسوار وطنه الواحد، وأنه يُحاسب على أفعاله بينما يُعفى منها سواه لأسباب متعددة، فإن الحرية تتحول إلى امتياز، لا إلى حق، والقانون لا يخدم الحرية إلا إذا وقف على مسافة واحدة من الجميع، ويسعى لكفالة العدالة لا الامتياز، ويمنع التحيز، ويحارب المحاباة، ويواجه التفرقة أياً كان شكلها.

وحين يقول القانون قولته الشهيرة والعميقة بفكرتها ومداها: "الناس سواسية أمام القانون", فإنه في الحقيقة يقول: "الحرية للجميع، لا لفئة دون أخرى."

 رابعًا: عندما يخضع هو ذاته للمساءلة

القانون لا يكون خادما للحرية إن لم يكن هو ذاته قابلاً للنقد، والتطوير، والمراجعة، طالما أنه يمثل أرادة بشرية مجبلة على الخطأ والقصور، ومن ثم فإن القوانين التي تُحاط بالقداسة والحصانة المزيفة، ولا يُسمح بمساءلتها أو مناقشتها أو تعديلها، قد تتحول إلى أغلال مهما بدت في ظاهرها عادلة.

أما حين يكون القانون حيا، مرنا، منفتحا، قادرا على الاستجابة لتغير الزمن، وتقدم الوعي، وتحولات المجتمع، فإنه يكون بالفعل حليفا للحرية ورفيقا لها.

 

خامسًا: عندما يطبق بروح القانون لا بحرفية النص فقط

 القانون ليس نصوصا جامدة فحسب، بل هو روح تسكن هذه النصوص وهي أقرب الى العدالة من حرفية النص ذات المعنى الضيق غالبا، والقاضي العادل، أو رجل الأمن النبيل، أو الموظف المخلص، لا يطبق القانون كآلة أو أداة صامتة بلا أحساس، بل يفهم الغاية المتوخاة منه قريبة كانت أ بعيدة، ويُحكم الضمير، ويحترم الإنسان بعده منتهى غاياته.

فما أكثر القوانين التي تستخدم – باسم النظام – لهدم الحريات، لا لحمايتها، فقط لأن من ينفذها لا يفهم غاياتها، وما أقل القوانين التي تنقذ إنسانا لأن من يطبقها قرأها بقلبه، لا بعينيه فقط.

 ختاما: نقول أذا ما توافر مثل هذا المناخ، لا يخاف المواطن من القانون، بل يراه ملجأه إذا ظُلم، وحاميه إذا تجرأ عليه أحد، وصديقه إذا التبس عليه الطريق.

وهكذا، لا يكون القانون خصما للحرية، بل شريكا لها في رحلة الكرامة والإنسانية التي نصبوا الى صيانتها لا هدرها.